كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد: ألم تر إلى صنع ربك أو الم تر إلى الظل كيف مده ربك. وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع. والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال. وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان: الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصف الجنة به في قوله: {وظل ممدود} [الواقعة: 30] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئًا سوى الجسم واللون، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظلمه فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلًا. فمعنى الآية: ألم تر إلى عجيب صنع ربك {كيف مدّ الظل} أي جعله ممتدًا منبسطًا على الأجسام. {ولو شاء لجعله ساكنًا} لاصقًا بكل مظل. {ثم جعلنا الشمس} على وجوده {دليلًا} فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودًا، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها: {ثم قبضناه} اي أزلنا الظل لا دفعه بل يسيرًا يسيرًا فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئًا بعد شيء، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة. الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدودًا منبسطًا، ولو شاء لجعله ساكنًا مستقرًا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها دليلًا على ذلك الظل، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص، ثم لقبض الظل معنيان: أحدهما: انتهاء الإظلال إلى غاية مّا من النقصان بالتدريج، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة. وقوله: {إلينا} يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله: {يسيرًا} كما قال: {ذلك حشر علينا يسير} [ق: 44] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر، والسبات الراحة قاله أبومسلم. وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة. قال جار الله: السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة، وعلى هذا فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} [الأنعام: 60] عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر. الاستدلال الثالث قوله: {وهو الذي أرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته} أي قدام المطر وقد مر تفسيره في الأعراف وأنه لم قال هاهنا {أرسل} بلفظ الماضي وهناك {يرسل} أما قوله: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم- ومنهم أحمد بن يحيى- بأنه الذي يكون طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره.
واعتراض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحًا لبلاغته في الطهارة كان سديدًا وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء وأقول: إن الزمخشري سلم أن الطهور في العربية على وجهين: صفة كقولك ماء طهور أي طاهر، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار، وعلى هذا فالنزاع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهرًا لغيره فكأنه سبحانه قال: وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهرًا في نفسه. ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره {وينزل عليكم ماء من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال: 11].
ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول: هاهنا نظران: الأول أن عين الماء هو طهور أم لا؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات، وقال أبو حنيفة: يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات. وقال الشافعي وغيره من الأئمة: إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم إلا بعد إعوازه أيضًا ودليله في الخبث قوله صلى الله عليه وسلم «ثم اغسليه بالماء» النظر الثاني في الماء وفيه بحثان: الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد. أما الأول فلإطلاق الآية {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} والصل بقاؤه وللحديث «خلق الماء طهورًا» ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وابدانهم، ولأنه ماء طاهر لقي جسمًا طاهرًا فأشبه ما إذا لاقى حجارة. وأما الثاني فلقوله صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» ولو بقي الماء كما كان طاهرًا مطهرًا لما كان للمنع منه معنى، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانيًا ولو كان طهورًا لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم. وقال مالك والسدي: إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده.
وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة، ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه. وقال أبو حنيفة: إنه نجس قياسًا للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية. والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني. والماء المستعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كسائر المائعات. البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء. وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضًا مطهر، وإن اتصل به وكان طاهرًا ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضًا مطهر، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعًا للحرج، وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنيًا عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضوء به وإلا فلا خلافًا لأبي حنيفة. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالاتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: إن هذا إشارة إلى كيفية الوضوء لا إلى كيفية الماء، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك، وأما الكمال فلا كلام فيه. قال: وأيضًا إذا اختلط ماء الولد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بما الورد لا بالماء فيكون الحدث يقينًا والطهر مشكوكًا فيه والشك لا يرفع اليقين، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلًا لا يظهر اثره فإنه كالمعدوم. وأيضًا الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص. حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] وقوله: {فلم تجدوا ماء} [النساء: 43] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه صلى الله عليه وسلم أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحاري من الحشائش وغيرها.
هذا كله إذا كان الخليط طاهرًا، فإن كان نجسًا فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة، سواء كان الماء كثيرًا أو قليلًا. ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة. وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. قال أبو بكر الرازي: ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري. قال: وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر، وليس كلامًا في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله.
ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير: فعن عبد الله بن عمر: إذا كان الماء اربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير: الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال. وقال الشافعي: إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه. وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها: قوله: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه، ولقوله «خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» فبقي ما عداه على الأصل.
ومنها قوله تعالى: {فاغسلوا} والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أعضاءه ولاسيما إذ كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارهما وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح. ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير. ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبرًا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند ابي حنيفة، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هنالك لا الجارية ولا الراكدة، ولم ينقل أ، هم خاضوا في تقدير المياه ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد اصغى لها الإناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع السنانير فيها.
ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس، واي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه، وأي معنى لقول القائل: إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم يتمنع المخالطة؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة. وقال الشافعي: إذا وقع بول في ماء جارٍ ولم يتغير جاز الوضوء به. وايّ فرق بين الجاري والراكد؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير. ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل غليه عند اتصال غيره به؟. ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن اليدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبرًا لاشتهر وتواتر. ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة؛ أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله صلى الله عليه وسلم «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا» فضعيف. لأن راوية مجهول، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال: أخبرني رجل. فيكون الحديث مرسلًا والمرسل عنده ليس بحجة. سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضًا اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل. سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب، فقد روي «إذا بلغ الماء قلتين» وروي «إذا بلغ قلة» وروي «أربعين» «وإذا بلغ كرين» سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله «لم يحمل خبثًا» لا يمكن إجراؤه على ظاهره، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله. سلمنا إجاءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذرًا طبعًا.